كافحوا الأوبئة مثلما تكافحون الحرائق: وقاية وخطة لتقاسم التكاليف

أدى انتشار فيروس كورونا المستجد في مختلف أنحاء العالم إلى هبوط الأسواق وخفض توقعات النمو لدى المحللين، مما يجعل احتمالات تعرض الاقتصاد العالمي للضرر تتضح بسرعة. وتُعد أشد المناطق تضررًا في الصين من هذا الفيروس، الذي ظهر لأول مرة في مقاطعة هويبي أواخر العام الماضي، موطنًا لملايين الأعمال التجارية التي توفر الإمدادات لما يقدر بنحو 000 56 شركة متعددة الجنسيات، والتي يعاني العديد منها الآن من خلل في سلاسل الإمداد بسبب تباطؤ إنتاج مكونات التصنيع الحيوية في الصين. ومن المرجح أن تصل التأثيرات إلى الشركات العملاقة في مجال التكنولوجيا، وشركات الأدوية، وشركات التصنيع الثقيل، وغيرها من الصناعات أيضًا.

يبدو أن الصين بدأت تسيطر على تفشي المرض أخيرًا، إذ تسارع الحكومة إلى إعادة فتح المصانع وزيادة التصنيع لتلبية الطلب العالمي بعد أن اتسمت استجابتها الأولية لتفشي كورونا بالتخبط. ويقال إن أرباب العمل يقدمون تذاكر سفر مدفوعة الأجر لإقناع العمال بالعودة إلى المصانع والمكاتب، لكن من المرجح أن تتعثر هذه الجهود بسبب تردد العمال والافتقار إلى الثقة في المؤسسات الصينية. وحتى إذا تمكنت الصين من استئناف المستوى الطبيعي للأعمال، فإن سلاسل الإمداد قد تستغرق وقتًا أطول للحاق بالركب، وقد يَظهر تعطل هذه السلاسل على شكل انخفاض العرض وارتفاع الأسعار لعدة شهور.

يتفشى الفيروس بسرعة خارج الصين أيضًا، مما يسبب الفوضى في اقتصادات دول كبرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية وإيطاليا. وأُكدت الإصابة بهذا الفيروس في 77 بلدًا حتى الآن، إذ سُجلت أكثر من 000 93 حالة إصابة بمرض كوفيد-19 (المرض الذي يسببه الفيروس) و198 3 حالة وفاة (معظمها في الصين)، ويؤدي ذلك إلى إلغاء الحفلات الموسيقية والمؤتمرات والمناسبات الرياضية بشكل يومي في كل أنحاء شرق آسيا وأوروبا، كما أن الفنادق، وشركات الطيران، وأماكن المناسبات، وشركات التأمين تتلقى ضربات موجعة.

ومع ذلك، تعاملت الحكومات والمنظمات الدولية في جميع أنحاء العالم مع التفشي الجديد لفيروس كورونا بوصفه مشكلة صحية عامة أكثر من أنه مشكلة اجتماعية كبيرة ستؤثر أسبابها ونتائجها على كل شيء بدءً من التمويل والتأمين وصولًا إلى السياحة والزراعة. ويستدعي كل نوع من الكوارث تقريبًا استجابة وإجراءات وقائية تشارك بها عدة قطاعات. على سبيل المثال، تكافح فرق الإطفاء للقضاء على الحرائق المشتعلة، لكن مواصفات البناء ومثبطات اللهب تقلل من احتمال اندلاع الحرائق قبل كل شيء، في حين توفر أنظمة الإنذار تنبيهًا مبكرًا لمن يتعرضون للخطر. وعندما يهدد إعصار بضرب منطقة ما، تقوم السلطات المحلية بإجلاء الناس قبل أيام من حدوث العاصفة المتوقعة، لكن تقسيم المناطق ودفع التأمينات عليها يساعدان بالفعل في توقع المشكلة من خلال منع تنمية المناطق المعرضة للفيضانات. وفي كلا النوعين من الكوارث، تتحمل الجهات الفاعلة، العامة والخاصة، التكاليف في نهاية المطاف. لكن التعامل مع الأوبئة يتصف بالنظر إليها تقريبًا على أنها أخطار تهدد الصحة العامة فقط، ويُبذل لموجهتها القليل من الجهود لتوحيد تدابير الوقاية، بالإضافة لانعدام آلية تقاسم التكاليف عبر القطاعات المتضررة.

  • التكلفة الحقيقية للأوبئة

تشير تجارب سابقة لانتشار الفيروسات إلى أن تفشي فيروس كوفيد-19 سيسبب أضرارًا طويلة الأمد لبلدان واقتصادات بعينها أكثر من ضرره على الأسواق العالمية أو التجارة الدولية، وقد شهد الأسبوعان الماضيان موجات بيع هائلة في أسواق الأوراق المالية في مختلف أنحاء العالم، مما يشير إلى احتمال حدوث تأثيرات اقتصادية حادة على مستوى العالم، لكنها قد تكون قصيرة الأمد. وقد تعرضت الأسواق لهزة بسبب وباء السارس (المتلازمة التنفسية الحادة الشديدة) خلال عامي 2002 و2003، لكنها تعافت بسرعة، وانطبق الشيء نفسه على صناعة الطيران، التي عانت من خسائر في شرق آسيا نتيجة تفشي سارس، لكنها سرعان ما اتخذت اتجاهً تصاعديًا استمر حتى أوائل هذا العام. وهناك عاملان يجعلان احتمال أن يكون تفشي فيروس كورونا الحالي أكثر ضررًا من فيروس كورونا المرتبط بـ سارس الذي انتشر في السابق: وهما أن حصة الصين من أسواق التصنيع والسياحة العالمية أكبر بكثير اليوم مما كانت عليه عام 2003، كما أن فيروس كوفيد-19ينتشر بشكل أسرع بكثير عبر الحدود من فيروس كورونا المرتبط بـ سارس.

وبصرف النظر عن إمكانية أن يكون كوفيد-19 أكثر ضررًا على الاقتصاد العالمي من سارس أو الأوبئة السابقة، فإن من المؤكد أن تأثيراته على بلدان بعينها سوف تكون شديدة وطويلة؛ لأن الأوبئة تلحق أضرارًا طويلة الأجل باقتصادات الدول، فضلًا عن صحة الناس وإنتاجيتهم، وذلك من خلال عدم تحويل الموارد نحو الرعاية الصحية غير الطارئة، والمنافع والخدمات العامة الأخرى. وفي أثناء وباء مرض فيروس إيبولا في غرب أفريقيا، انهار نمو الناتج المحلي الإجمالي في ليبيريا من 8.7 % إلى 0.7 % بين عامي 2013 و2014، وشهدت سيراليون وغينيا انخفاضًا مماثلًا في النمو، وبلغ العدد الرسمي للوفيات الناجمة عن مرض فيروس إيبولا في غرب أفريقيا 11,300 شخص، لكن كان هناك أكثر من 10,600 حالة وفاة إضافية نتجت عن الإصابة بفيروس نقص المناعة المكتسبة(الإيدز)، والملاريا، والسل.

وقد أجهز فيروس إيبولا على قطاع الرعاية الصحية المجهد أصلًا في المنطقة، مسببًا انخفاضًا بنسبة 8% في القوى العاملة في مجال الرعاية الصحية في ليبيريا، مما خلف فجوات في الموارد البشرية ما تزال قائمة حتى يومنا هذا، كما تسبب الفيروس في إغلاق المدارس لشهور عديدة، الأمر الذي عطل التعليم وجعل الأطفال عرضة للاستغلال، مما أدى إلى ارتفاع معدلات العنف الجنسي وحالات الحمل غير المقصودة بين المراهقات. وسوف تستمر تكاليف هذه التأثيرات الثانوية وغيرها من التأثيرات الثانوية لمرض إيبولا لسنوات إن لم يكن لعقود مقبلة.

ولكن ينبغي التعاطي مع قصة تفشي الأوبئة في المستقبل بصورة مختلفة عن قصة تفشي وباء إيبولا في غرب أفريقيا، وفي حين أنه من المستحيل التنبؤ بموعد ومكان تفشي الأمراض المعدية في المستقبل، إلا أن هناك سبلًا للحد من تواترها والمخاطر التي تشكلها، كما أن الحكومات الوطنية والهيئات الدولية بإمكانها أن تتخذ تدابير لمنع حدوث الأسوأ، وأن توجه الأموال إلى حيث توجد حاجة إليها، وأن تتقاسم تكاليف التعافي إذا لم يكن بالإمكان تجنب الوباء.

  • من الاستجابة إلى الوقاية

أصول الأوبئة مثل داء كوفيد-19 ليست لغزًا، وقد حذرت منظمتنا غير الربحية، تحالف الصحة البيئية، لسنوات من أن فيروسات كورونا الجديدة قد تنتشر من الخفافيش إلى البشر في آسيا. وعلى مدى السنوات الستين الماضية، ظهرت غالبية مسببات الأمراض الحيوانية المنشأ الجديدة نتيجة للتغيرات في ممارسات الزراعة، أو إنتاج الأغذية، أو استخدام الأراضي، أو نتيجة الاتصال بالحياة البرية؛ لذلك هناك ضرورة لوضع استراتيجية وقائية أكثر قوة وفعالية، تكون قادرة على تعزيز ومواءمة القوانين والمعايير الوطنية والدولية التي تحكم استخدام الأراضي، بما يكفل جعل الممارسات التي تنطوي على مخاطر عالية في مجالي الزراعة وإنتاج الأغذية أكثر أمانًا.

النظم الغذائية على وجه الخصوص في حاجة ماسة إلى التحديث في كثير من أنحاء العالم، إذ يعتمد مئات الملايين من الناس في البلدان النامية بشكل رئيسي على أسواق الحيوانات الحية للحصول على الغذاء، إلا أن هذه الأسواق تشكل مصدرًا رئيسيًا لنشوء التهديدات الوبائية، مثل الأنفلونزا، وقد تورطت في تفشي مرضي سارس (المتلازمة التنفسية الحادة الشديدة) وفيروس كورونا؛ لذلك سيؤدي خفض عدد الحيوانات الحية التي تنقل عبر أسواق الأغذية إلى الحد من خطر تفشي الأمراض المعدية في المستقبل.

اتخذت الصين خطوة إيجابية في هذا الاتجاه بعد أن ربطت السلطات تفشي فيروس كوفيد-19 بسوق للحيوانات البرية في مدينة (وهان)، إذ عززت، في 24شباط/فبراير، قانون حماية الحياة البرية من أجل حظر الاتجار بالحيوانات البرية واستهلاكها (رغم أنه احتوى على عدد من الثغرات والإعفاءات). وتقدر قيمة صناعة الحيوانات البرية في الصين بنحو 74 مليار دولار أميركي؛ لذلك فإنه من المؤكد أن اللوائح الجديدة الأكثر صرامة سوف تلحق الضرر بالعديد من الشركات، لكن التكاليف ستبدو ضئيلة في الأرجح مقارنة بالتكلفة المترتبة على تفشي فيروس كورونا الحالي، الذي تسبب بخسارة الصين نحو 196 مليار دولار في قطاعي السياحة والإنفاق الاستهلاكي.

ويمكن تصميم تدابير وقائية أخرى تحد من خطر الأمراض التي تنقلها الحيوانات لتتناسب مع البيئات المحلية للأمراض وتهديداتها. خَلُصت السلطات الماليزية إلى أن فيروس (نيبا) القاتل، الذي تفشى عام 1998، انتقل من خفافيش الفاكهة الكبيرة المسماة “الثعالب الطائرة” إلى الخنازير وأخيراً إلى البشر. ونتيجة لذلك، أمرت الحكومة بفصل كل الأشجار المثمرة التي تجذب خفافيش الثعالب الطائرة عن مزارع الخنازير بهدف الحد من احتمالات انتقال العدوى، وهو إجراء احترازي بسيط يبدو أنه نجح لمدة عشرين عامًا حتى الآن. ويمكن أن تنجح تدابير وقائية مماثلة في بنغلاديش، حيث رُبطت حالات الإصابة بفيروس (نيبا) بعُصارة نخيل التمر الخام -وهو طعام شهي يُحصد مثل شراب القيقب – الذي تلوثه الخفافيش. أدى الحظر السابق على عُصارة نخيل التمر إلى زيادة  مبيعات السوق السوداء بسهولة، كما فشلت مساعي حمل الناس على غلي هذا الطعام الشهي بسبب تأثير ذلك على مذاقه، لكن بإمكان الأشخاص الذين يعملون على جنيه وقف انتقال العدوى من خلال تغطية الحاويات بشيء متواضع مثل تنورة الخيزران محلية الصنع.

وبمجرد دخول العامل المسبب للمرض إلى المجتمع، يمكن أن تصبح توعية الناس خطًا دفاعيًا قويًا، وكلما زادت معرفة المجتمعات المحلية عن كيفية انتقال المرض، تحسنت قدرتها على رصد تفشيه والتدخل عند حدوثه. في غرب أفريقيا، أعاقت مقاومة المجتمعات المحلية للتدخل الطبي استجابة العاملين الصحيين لمواجهة فيروس إيبولا، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن العديد من هذه المجتمعات لم تتواصل بشكل كبير مع العاملين في هذا المجال قبل تفشي الفيروس، ومن أجل بناء الثقة وتجنب سوء الفهم الخطير، ينبغي لوزارات الصحة والمنظمات الطبية أن تعمل على توعية العامة وإشراك أفراد المجتمعات المحلية المتضررة في مراقبة الأمراض.

والتدابير الوقائية من هذا القبيل مهمة لدرء الضرر الاقتصادي والبشري الذي يمكن أن تسببه الأمراض المعدية، لكن الحكومات والهيئات الدولية تحتاج إلى استكمال مثل هذه البرامج الوقائية بخطط طوارئ لتوجيه الموارد حيثما تكون هناك حاجة إليها -وتقاسم التكاليف – في أثناء تفشي المرض. وقد قدم البنك الدولي أداة لهذا الغرض، وهو صندوق التمويل الطارئ لمواجهة الأوبئة، الذي يوفر تأمينًا مدعومًا من القطاع الخاص يهدف إلى دفع التكاليف للبلدان الفقيرة إذا تأثرت بتفشي الأوبئة المنتشرة على نطاق واسع دوليًا. إن هذا الصندوق خطوة أولى جيدة، لكنه يفتقد جزءًا من أحجية الاستعداد للوباء من حيث أنه مصمم للدفع بغض النظر عما إذا كانت البلدان قد اتخذت تدابير وقائية. ومثل التأمين على السيارات، يجب تسعير منتجات التأمين ضد الأوبئة المتفشية محليًا أو دوليًا وفقًا لموجز بيان المخاطر الخاص بالمشتري -والذي يجب أن يعتمد جزئيًا على قدرة البلد على إظهار أنه يتخذ تدابير وقائية.

ويتمثل أحد الخيارات في إنشاء صندوق دولي منفصل للاستجابة للأوبئة تدفع تكاليفه الضرائب الوطنية- على الصناعات التي تنطوي على مخاطر الإصابة بالأمراض مثل منتجي وبائعي الحيوانات الحية، والصناعات الحرجية والاستخراجية – والذي يمكن أن يدعم الانتعاش ويقلل من الخسائر التي يلحقها تفشي الأوبئة بالاقتصادات الوطنية. ويمكن لصناديق التمويل الجديدة أن تمول مبادرات للتكيف مع الأوبئة، مماثلة لجهود التكيف مع المناخ، تُعِد البلدان على نحو أفضل لمواجهة تفشيها في المستقبل، وذلك باتخاذ العديد من التدابير الوقائية المبينة أعلاه.

ولدى الأمم المتحدة آليات للتصدي للأوبئة، لكنها مبعثرة بين وكالاتها. إن معالجة الأوبئة بوصفها كوارث حقيقية تتطلب استجابة دولية أكثر وحدةً، كما ينبغي إيلاء أهمية لتفشي الأمراض المعدية ضمن اتفاق إطار سينداي للحد من مخاطر الكوارث، وهو اتفاق عالمي التزمت الأطراف الموقعة عليه بخطط وطنية للحد من مخاطر الكوارث. ومن شأن ذلك أن يساعد البلدان على معالجة الأسباب الجذرية لتهديدات الأمراض المعدية بدلًا من معالجتها على أنها مجرد حالات من عدم اليقين. ويتعين على الأمم المتحدة أيضًا أن تجعل من إدارة المخاطر الوبائية أولوية في كل أنشطتها، حتى لا يؤدي أي شيء تضطلع به المنظمة العالمية عن غير قصد إلى زيادة احتمالات تفشي الوباء. وتطالب الأمم المتحدة بصورة روتينية بإجراء “تقييمات للمخاطر” من أجل تقييم المبادرات الإنمائية المقترحة؛ لذلك ينبغي أن تتضمن هذه التقييمات مخاطر ظهور أمراض معدية.

وإذا نجحت جهود الوقاية من الأوبئة والاستجابة لها، فإنها ستصبح في الغالب خارج دائرة اهتمام المجتمع، ويومًا بعد يوم ستشخص كالأمراض الروتينية ويصبح علاجها أسرع وأكثر دقة، وبمرور الوقت سيقل عدد الطلبات للحصول على  الميزانية في حالات الطوارئ، كما أن الاضطرابات المجتمعية بسبب تفشي الأمراض المعدية ستقل، وستزداد الثقة في النظم الصحية. تنتشر الأوبئة بشكل أكبر من الأمراض، وهي تهدد صحة مجتمعات واقتصادات بأكملها؛ لذلك لن يؤدي التعامل معها بوصفها مجرد أزمات صحية إلا إلى إدامة دورةٍ غير فعّالةٍ ومستهترةٍ مالياً من الهلع والاستجابة والإهمال.

…………………………………………………………………………………..

 

عنوان المقال الأصلي:

Fight Pandemics Like Wildfires

With Prevention and a Plan to Share the Costs

المؤلف:Catherine Machalaba and William B. Karesh
مكان النشر وتاريخه:Foreign Affairs Magazine, March 6, 2020
رابط المقال الأصلي:https://www.foreignaffairs.com/articles/2020-03-06/fight-pandemics-wildfires
ترجمة:وحدة الترجمة والتعريب

عن أ.فراس أبو عدل

حاصل على ماجستير في الترجمة السمعية والبصرية، مدرس في الجامعات السورية.

شاهد أيضاً

خطاب التهديد الإلهائي في وسائل الإعلام الاستبدادية

لطالما زعم الباحثون أنَّ القادة يتلاعبون بالسياسة الخارجية، بل ويشنونَ الحروب أحيانًا من أجل تعزيز …