روسيا… سجل أسود في التجويع ومنع وصول المساعدات الإنسانية

تمتلك روسيا سجلاً أسود في تاريخ منع المساعدات الإنسانية في الكثير من الأزمات الدولية التي اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية ابتداءً من حصار برلين عام 1948 حيث منعت وصول الإمدادات الإنسانية إلى برلين الغربية ما لم تقوم الدول الغربية بسحب المارك الألماني الجديد الذي بدأ تداوله في هذه المدينة التي كانت تحت سيطرة دول الحلفاء كشرط لرفع الحصار، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة وبريطانيا إلى وضع خطة تتضمن تأجير رحلات جوية استخدمت فيها القوات الجوية الأمريكية والبريطانية والكندية والفرنسية والاسترالية ودول أخرى لإنشاء جسر جوي لنقل الوقود والمواد الغذائية إلى سكان المدينة المحاصرة، ونفذت حينها أكثر من 200 ألف رحلة جوية خلال عام واحد كانت تنقل نحو 3475 طن يومياً.

سجل روسيا في التجويع ومنع وصول المساعدات الإنسانية والمواد الأساسية لم يتوقف عند حصار برلين، وهناك العشرات من الأمثلة على ذلك، فالقوات البحرية الروسية اليوم تمنع وصول إمدادات القمح الأوكرانية إلى مليارات الأشخاص حول العالم وتهدد بكارثة إنسانية كبيرة بسبب نقص الكميات وارتفاع أسعار القمح والمواد الأساسية بشكل غير مسبوق في معظم أنحاء العالم، إضافة إلى منع القوات الروسية وصول المساعدات الإنسانية إلى ماريوبول وكثير من المناطق المنكوبة في أوكرانيا.

أما القضية السورية فهي أكبر شاهد على الابتزاز الروسي لتحقيق مكاسب سياسية مقابل السماح بدخول المساعدات الإنسانية إلى ملايين السوريين الذين هجرتهم طائراتها وبراميل بشار الأسد المتفجرة، حيث استخدمت روسيا حق النقض 17 مرة منذ العام 2011 حتى الآن ضد مشاريع قرارات خاصة بسوريا أغلبها يتعلق بوصول المساعدات الإنسانية.

فمنذ اندلاع الثورة السورية حاولت روسيا منع وصول المساعدات الإنسانية إلى المتضررين من العمليات العسكرية حتى عام 2014 حيث كانت المعطيات على الأرض تغيرت بشكل كبير لصالح الجيش السوري الحر الذي بات يسيطر على أكثر من 60% من الأراضي السورية، إضافة إلى ضعف الموقف الدولي للنظام السوري وحلفائه وعلى رأسهم روسيا بعد مجزرة الكيماوي في الغوطتين الشرقية والغربية والصفقة التي تم التوصل إليها بين الولايات المتحدة وروسيا لتجريد النظام السوري من ترسانته الكيماوية مقابل غض النظر عن محاسبته على المجزرة المروعة التي ارتكبها بحق الآلاف من المدنيين، حيث تم التوصل إلى اتفاق داخل مجلس الامن لإصدار القرار 2165 لعام 2014 الذي وضع آلية لإدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا لمدة عام كامل عن طريق الأمم المتحدة عبر أربع منافذ حدودية مع الأردن والعراق وتركيا بغض النظر عن موافقة النظام السوري.

ومع التدخل الروسي العسكري المباشر في أيلول/سبتمبر 2015 بدأت المعطيات على الأرض تتغير لصالح النظام السوري في ظل الهجمة الشرسة التي شنتها القوات الجوية الروسية ضد عدد من المناطق في سوريا، إلى جانب فرض سياسات الحصار وعرقلة وصول المساعدات إلى عدد من المناطق المحاصرة التي وصل عددها آنذاك إلى أكثر من 15 منطقة. وفي موازاة ذلك بدأت موسكو على الصعيد الدولي بحملة للانتقام من آلية إدخال المساعدات التي أقرها القرار 2165 حيث نجحت في تقليص عدد المعابر الحدودية من أريعة إلى معبر واحد (باب الهوى) ولمدة ستة أشهر فقط بدلاً من سنة، مع إمكانية تمديدها ستة أشهر أخرى بشرط موافقة المجلس بناء على تقرير يقدمه الأمين العام للأمم المتحدة، كما مارست ضغوط لإدخال هذه المساعدات من خلال النظام السوري بدمشق.

في العاشر من تموز/يوليو الجاري انتهى التفويض الأممي بإدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا عبر الحدود، الأمر الذي يهدد بكارثة إنسانية تطال حياة الملايين من الأشخاص. حاول مجلس الأمن في الثامن من الشهر الجاري التوصل إلى توافق لتجديد آلية إدخال المساعدات عبر تمديد القرار 2165 قبل انتهاء مفعوله، لكن الأمور لم تسر كما يتطلع الملايين من السوريين الذين سيتأثرون بعواقب ما يجري في أورقة الأمم المتحدة. فقد تقدمت أيرلندا والنرويج، حاملتي القلم الإنساني بالملف السوري، بمشروع قرار يتضمن تجديد آلية دخول المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى لمدة ستة أشهر مع تمديد ستة أشهر إضافية بحيث تستطيع المنظمات الإنسانية تقديم المساعدات إلى ما بعد انتهاء أزمة الشتاء المتكررة على أن ينتهي مفعول القرار في 10 تموز/يوليو 2023، وحين طرح مشروع القرار للتصويت صوتت 13 دولة لصالحه في حين استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) وامتنعت الصين عن التصويت.

بالمقابل طرحت روسيا مشروع قرار شبيه بالمشروع الأيرلندي النرويجي يقضي بالتمديد لمدة ستة أشهر فقط على أن ينظر مجلس الأمن بالأمر مجدداً بعد انتهاء هذه المدة واشترطت مسودة القرار الروسي تخصيص نسبة من الأموال المخصصة لمشاريع التعافي أو الإنعاش المبكر لمشاريع إعادة الإعمار الوهمية التي تقوم بها الشركات الروسية والإيرانية وشركات أسماء الأسد في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وهذا ربما تفسير لأحد أسباب زيارة بشار الأسد إلى حلب وحديثه عن إعادة إعمار محطتها الحرارية. لكن القرار لم يحظ بقبول الدول الأعضاء في المجلس حيث استخدمت كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا حق النقض وامتنعت 10 دول عن التصويت في حين وافق على مشروع القرار فقط روسيا والصين.

المندوبة الأمريكية الدائمة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس-غرينفيلد، عبرت عن موقف بلادها تجاه عدم موافقة روسيا على تمديد آلية إدخال المساعدات الإنسانية إلى سوريا بقولها إن التمديد “مسألة حياة أو موت، ومن المؤسف أن الناس سيموتون بسبب هذا التصويت – وبسبب البلد الذي استخدم حق النقض بلا خجل اليوم”. كما تعهدت غرينفيلد التي اجتمعت مع منظمة الخوذ البيضاء في معبر باب الهوى في بداية حزيران/يونيو الماضي لبحث خطر إغلاق معبر باب الهوى، تعهدت بإيجاد بدائل لإيصال المساعدات الإنسانية إلى المتضررين، في حين أشارت كل من النرويج وأيرلندا إلى مواصلة العمل للتوصل إلى حل. أما المندوب الروسي في مجلس الأمن فقد أوضح أن مشروع القرار الأيرلندي النرويجي يضرب بمصالح دمشق عرض الحائط، في حين أن دمشق يجب أن تكون المستفيد الأول من القرار.

وعلى الرغم من أن القانون الدولي يشترط موافقة الدولة التي يدور نزاع على أراضيها لدخول المساعدات الإنسانية كما هو الحال في سوريا، إلا أن التجارب الدولية أثبتت قدرة مجلس الأمن على إدخال هذه المساعدات خارج إرادة الدولة المعنية، كما كانت عليه الحال في العراق والبوسنة والصومال ونيجيريا، مع ذلك يعتبر القانون الدولي منع وصول المساعدات الإنسانية جريمة حرب وانتهاكاً جسيماً لقواعد القانون الدولي الإنساني.

وفي ظل تعنت روسيا، هناك سؤال مهم يطرح نفسه حول البدائل التي يمكن اللجوء إليها لضمان استمرارية تدفق المساعدات الإنسانية في حال فشل مجلس الأمن في التوصل إلى تسوية أو تفاهمات مع الجانب الروسي؟

للأسف الشديد البدائل المتاحة محدودة ومحفوفة بالمخاطر، أولى هذه البدائل هو اللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة كما عملت مؤخراً الدول الغربية، حيث اعتمدت الجمعية العامة في آذار/مارس الماضي بأغلبية ساحقة قراراً يقضي بإدانة الحرب الروسية على أوكرانيا والدعوة إلى الوقوف إلى جانب كييف ضد العدوان الروسي، والمطالبة بحماية المدنيين ووصول المساعدات الإنسانية إلى أوكرانيا. لكن حسابات الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية في القضية السورية مغايرة لحساباتها في القضية الأوكرانية وطريقة تعاطيها مع الغزو الروسي لأوكرانيا مختلفة عن تعاطيها مع التدخل الروسي في الملف السوري وهو ما أثبتته التجربة طيلة السنوات الماضية. لذلك تفضل الولايات المتحدة والدول الأوروبية استمرار وصول المساعدات عبر الحدود وتحت إشراف مجلس الأمن الدولي، ولن تلجأ إلى فرض عقوبات إضافية على روسيا بسبب منعها وصول المساعدات الإنسانية إلى سوريا كما فعلت في القضية الأوكرانية.

البديل الآخر هو اللجوء إلى المنظمات المحلية أو منظمات دولية أخرى غير تابعة للأمم المتحدة لإيصال المساعدات بعيداً عن تفويض مجلس الأمن، وهذا الخيار غير فعال خاصة فيما يتعلق بالمانحين الذين سيتراجعون عن قراراتهم في تمويل المشاريع الإنسانية والإغاثية خشية من ذهاب هذه الأموال إلى جهات خطأ وبالتالي وقوعهم في شبهات تمويل الإرهاب.

على أية حال، إذا لم يتم التوصل إلى حلول داخل مجلس الأمن خلال الأيام القادمة، فالنتائج ستكون كارثية حيث ستتوقف المستشفيات والمراكز الطبية والمدارس عن العمل، كما ستزداد معاناة الملايين من الأشخاص من انقطاع المساعدات الإنسانية والإغاثية عنهم في ظل الأزمة الاقتصادية الدولية وارتفاع أسعار المواد الغذائية وهو ما ينذر بعواقب إنسانية خطيرة.

عن د.وسام الدين العكلة

شاهد أيضاً

مركز ماري للأبحاث والدراسات يهنئكم بحلول عيد الفطر السعيد أعاده الله عليكم بالخير واليمن والبركات

اترك تعليقاً