ليست المشكلة في القضية السورية هي كتابة الدستور أو صناعته، ذلك أن كتابة الدستور هي واحدة من جزئيات الحل، بالإضافة إلى كونها مرحلة متقدمة من العملية السياسية، وعلى فرض الانتهاء من كتابة الدستور، فالرأي مستقر في الأوساط القانونية أن صناعة الدساتير لا تصنع سلماً مجتمعياً في الدول التي اندلعت فيها ثورات مطالبة بعميلة الانتقال من حكم مستبد تسلطي إلى حكم ديمقراطي.
كما أن الدساتير وإن كتبت فهي ليست إلا توصيفاً لنظام الحكم وبياناً للحقوق والحريات وإطاراً إجرائياً لضمانها وحمايتها، فأكثر الأنظمة القمعية الفاسدة صاغت دساتيرها وأدرجت فيها كل الحقوق والحريات التي تنص عليها المواثيق الدولية، كما وضمنتها كل الإجراءات الكفيلة بحمايتها، ومع ذلك لا يوجد أدنى درجة من درجات احترام ما اشتملت عليه تلك الدساتير من حقوق وحريات وما كفلته إجراءاتها.
لا شكّ أن عملية الربط بين بين كتابة الدستور واستقرار الوضع هو ربط غير صحيح ويأباه المنطق السياسي والقانوني، حيث أن عملية كتابة الدستور لها مفترضاتها ولها بيئتها، فالدساتير لا تصاغ تحت السلاح وفي ظل القمع، فهذه الأوضاع لا تصلح وسطاً أو بيئة لإنتاج دستور أو أي عمل سياسي أو قانوني.
إن من المسلمات التي لا ينازع فيها أحد هي أن الحل السياسي لا يبدأ إلا بانتقال السلطة، أو على الأقل بوضع الترتيبات الأولية اللازمة لانتقالها، فإن لم يكن ثمة انتقال للسلطة أو ترتيبات أولية لذلك، فمعناه أن الرغبة وكذلك الإرادة غير متوفرة للبحث عن مخرج سياسي للقضية السورية.
وإذا كانت عملية انتقال السلطة أو وضع الترتيبات الأولية لانتقال السلطة هي المفترض الأولي للحل في القضية السورية، فإن التعاطي التكاملي والشامل مع القضية السورية يعدّ مفترضا ثانياً لعملية الحل، وهذا يتطلب تحديد مختلف القضايا المتنازع عليها تحديداً شاملاً وحصرياً، والتصدي لها -تفاوضياً- كتلة واحدة، أما التعاطي مع موضوعات جزئية أو مجتزأة فهذا عرقلة للحل وليس تصدياً وحسماً له.
ومما لا شك فيه أيضاً أن انتقاء الدستور ليكون الموضوع الوحيد للتفاوض يدلّ على أننا لسنا أمام حل سياسي بل نحن بصدد إصلاح دستوري، والفرق كبير بين الحل السياسي الشامل-المطلوب- الذي يكون أحد موضوعاته المتقدمة كتابة الدستور، والإصلاح الدستوري -المرفوض- الذي إما أن تقوده السلطة القائمة بمفردها أو أن تشارك فيه السلطة وأطراف أخرى من خارج السلطة ولا فرق بين الوضعين من حيث المآل.
إن الحل التكاملي والإحاطة بكافة موضوعات القضية هي مسألة ضرورة لا يمكن تجاوزها، فبالإضافة إلى القضية المركزية وهي الانتقال من الحكم التسلطي الديكتاتوري إلى الحكم الديمقراطي، فقد أفرزت القضية السورية العديد من الانتهاكات، سواء من حيث الكم أو من حيث النوع، كقضايا الاختفاء القسري والاعتقال والمفقودين وضحايا التعذيب وقضية اللاجئين والنازحين وحقوق من ترك عمله ووظيفته فضلاً عن قضايا التدمير…..إلخ، كل هذه القضايا يجب أن تتصدر جداول الأعمال وأن توضع على طاولة التفاوض، فهي قضايا لا تحتمل التجزئة ولا تقبل التقسيط، بل إن تجزئتها وتقسيطها تحت أي ذريعة هو إلتفاف عليها وعلى غيرها من القضايا.
إن النزاع والخصومة لا تكمن في الدستور وليست في مدى ضرورة الإصلاح الدستوري، إنما يكمن النزاع في شرعية السلطة ابتداءً، والهدف هو الانتقال من الحكم التسلطي الديكتاتوري ووضع حدّ للانتهاكات والقمع وإحلال السلم والانتقال الديمقراطي، وبالتالي لا يُنظر إلى مسألة كتابة الدستور والجدل فيه والاختلاف حول إجراءاته إلا على أنها كسب للوقت بهدف إطالة عمر التسلط والاستبداد والانتهاكات.
يضاف إلى ما تقدم، لا يقتصر التصدي للحل السياسي في سورية على الإحاطة بكلّ ما هو مطلوب ليكون على طاولة التفاوض وتحديده من الناحية الموضوعية، بل لا بد من تكون هناك مجموعة من الهياكل المؤسسية القادرة على الاضطلاع والنهوض بدورها الإجرائي وفقاً للتحديد الموضوعي الذي أشرنا إليه من قبل.
إن الهياكل المؤسسية وذات البعد الشعبي هي وحدها الكفيلة والقادرة على النهوض والتصدي للحل وفقاً لإجراءات محددة، وما أعنيه هنا أن تكون تلك الهياكل نتاج بيئة معبرة عن إرادة الناس، وهو ما تنهض به الأحزاب السياسية والتيارات والمجالس المحلية ومنظمات المجتمع المدني المعبرة تعبيراً صادقاً وحقيقياً عن الإرادة الشعبية. وبدون تلك الهياكل يصبح التعاطي مع القضية السياسية لغزاً وينعزل من يتصدى للحل عن المجتمع، لأنه سيصبح جزءاً من المشكلة وليس جزءاً من الحل ولأن المجتمع في هذه الحالة سيصبح دوره دور المشاهد وليس دور المشارك، ولن يرضى المجتمع بهذا الدور.