بنظرة على أبرز الأفكار التي تناولها كتاب الفيلسوف الفرنسي فرانسيس بيكون (أطلنطس الجديدة) الذي نشر العام 1627م، سنجد فيه تصوراً لمجتمع مثالي معتمداً على قيمة عظمة الإنسان، وهو بذلك يعارض رؤية توماس مور التي تجعل من الفرد مجرد تابع للمجتمع، فـبيكون يعتمد بشكل كلي على الفرد والتطور العلمي الذي يحقق حالة مستمرة غير منتهية من التقدم. وتعدّ أفكار بيكون نموذجاً للاستشراف العلمي –في التفكير المستقبلي – الذي يمكن أن يُرى على أنه كان الملهم لكل نماذج استقراء المستقبل العلمية والتكنولوجية. في ظل التحديات الكبرى التي تواجه العالم مستقبلاً، وبإمكان مثل هذه الدراسات العابرة للمعرفة “المستقبليات” أن توفِّر “استباقات” معرفية حقيقية يمكن من خلالها الوصول إلى رسم خريطة شاملة للمستقبل.
فمعطيات التطور التكنولوجي فرضت على الجميع ضرورة الاهتمام بالدراسات المستقبلية، وخصوصاً في مجال العلوم السياسية من أجل رصد و مواجهة التحديات التي تعترض العالم من تغييرات مناخية، وإعادة رسم الخرائط السياسية والجيوبوليتكية على أسس إثنية وعرقية وأمراض معدية (كورونا).
إن زماننا انتقالي، زمان بلا ثقة في القدرة على العودة إلى أي ماضٍ عرفناه، وبلا ثقة في أي طريق نحو مستقبل مرغوب وممكن ومستدام، إننا نعيش في حالة من فيض اللا- قرارات، إننا مكبلون بالمخاطر، ومروعون بالخوف من اختيارات ربما تعود بالويلات على الجميع.
تعتبر الأفكار التي قدمها عالم المستقبليات البريطاني ضياء الدين ساردا في دراسته “الأزمنة ما بعد العادية” تشير الى ثقتنا بالزمن الحالي قليلة، وهذا القليل هو ما يمنحنا بعض الثقة والاطمئنان.
أضحى كل شـيء، من الاقتصاد إلى العلاقات الدولية إلى السياسة، ما بعد عاديّاً. وهناك أسباب وجيهة لهذه الحالة وكل منها مرتبط بالعوامل الثلاثة: (التعقد -الفوضـى -التناقض) وهي القوى التـي تُشكِّل الأزمنة ما بعد العادية، ومن الضروري أن نفهم هذه القوى والتعامل معها والمضي قدماً.
تضمنت أفكار ساردار ثلاث نقاط رئيسية:
الأولى: المميزات الرئيسة للعالم في وضعه الحالي حيث يسود فيه التناقض والفوضى واللايقين والتعقد، وهي الصفات التـي تؤدي إلى شيوع الجهل والارتباك حيال العالم المتغير. ويرى ساردار أن الجهل الحالي يمكن أن يكون جهلاً ثلاثي المستويات أو جهلاً مكعباً: الجهل بجهلنا، والجهل المضمن في المخاطر المحتملة للتطورات الأخيرة، والجهل الناتج عن فائض المعلومات، وهو على العكس من الجهل المعتاد، والذي يمثل فجوة يمكن ملؤها بالبحث والمعرفة .
ثانياً: الأزمنة ما بعد العادية”، حيث نشهد بعض الأحداث من أمراض ومشاكل عالمية تُؤثِّر على عددٍ غير محدودٍ من الأفراد (جائحة كورونا). حيث تجعل من الصعوبة التعامل مع الأحداث الأخيرة بشكل منفرد، تدلّ على دخول العالم في الحالة ما بعد العادية. وهي تمتد لتُؤثِّر على كل جانب من الحياة الإنسانية والمؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولم تقتصر الحالة ما بعد العادية على الأنشطة البشرية وحدها، بل أيضاً على المناخ والطبيعة التـي تشهد تغيرات متسارعة.
ثالثاً: التـي تمثل “الآفاق الثلاثة للأزمنة ما بعد العادية”، ننتقل إلى نطاق القراءات المستقبلية من خلال استكشاف إمكانيات تحول العالم مستقبلاً.
الأدوات الحالية غير قادرة على مواكبة المستقبلات المعقدة والفوضوية وغير اليقينية والمنهارة بسرعة . إن الدراسات المستقبلية كانت تتعامل تقليديًّا مع تعددية المستقبلات البديلة من خلال التمييز بين المستقبلات المعقولة والمرجحة والممكنة والمفضلة. أي أن تتُولِّد سياسات واستراتيجيات تتواكب مع التعقيد واللايقين والسلوك الفوضوي.
ويكشف ساردار أن معنـى أن تكون إنساناً هو الآخر على وشك التغير الجذري. فعلى مدى قرون، افترض الغرب أن هناك طريقاً واحداً لأن تكون إنساناً. لقد كان هذا الافتراض هو العقبة الأساسية أمام تقدير التنوع الإنساني. أما الآن، فإن التقدم في الهندسة الوراثية وعلم الأحياء التركيبـي يُدمِّر النظرة التقليدية لما يكوِن الكائن البشري. لاسيما إذا اتجهت أزمنة كورونا إلى مزيد من التعقيد والنتائج غير المتوقعة لآثارها على الصحة حتى للذين تم شفاؤهم أو في حال عدم فاعلية اللقاح أو العلاج.
وبعيداً عن استيعاب اللايقين والجهل المرتبط بكل أفق، يجب أن يشتبك استكشافنا للمستقبلات، وأيٍ من التوقعات والسيناريوهات والرؤى القائمة عليه، مع الإمكانات ما بعد العادية المتضمنة في الآفاق الثلاثة.
فالجهل و اللايقين في المستقبل والظواهر مابعد عادية هي سمة العصر حيث أصبحت الأخطار محدقة بنا ومتوقعة الحدوث .وهي تشبه الفيل الأسود في غرفة مظلمة فإما لا يستطيع أحد أن يراه أو أن يختار أن يتجاهله أو في حال ما أدرك وجوده لا يستطيع التعامل معه بشكل فردي، ولكن من خلال جهود جماعية.
وعلى هذا النحو، فإن الأفيال السوداء هي نوع من المجهولات وعادةً ما تتطلب الأحداث ذات الإمكانية ما بعد العادية فعلاً جماعيّاً كما حدث مع وباء الإيبولا عام 2014. وربما يحدث الآن في ظل كورونا وفي حال عدم حدوث هذا التعاون فنحن أمام صراع عالمي قادم لا محال.
فالظواهر “غير عادية” متجهة نحو الحالة ما بعد العادية من خلال التغذية الراجعة الإيجابية أو النمو المتصاعد الذي يؤدي إلى انعدام الاستقرار في النظام.