يبدو أن السيناريوهات الأسوأ للتأثيرات الاقتصادية لإنتشار فيروس كورونا بدأت تأخذ مفاعيلها في أروقة صناعة القرارات الإقتصادية حول العالم خوفاً من تعرض الاقتصاد العالمي لمخاطر الوقوع في أزمة مالية شبيهة بأزمة العام 2008. فالخوف من تباطؤ الاقتصاد الامريكي دفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى إعلان تخفيض أسعار الفائدة للمرة الثانية خلال هذا الشهر وبمقدار نقطة واحدة لتصل إلى مجال صفري (0-0.25%)، بعد أن قام في الثالث من هذا الشهر بالتخفيض الأول خلال هذا العام وبلغ حينها نصف نقطة من (1.75%) إلى (1.25%).
الاستعداد للسيناريو الأسوأ
تهدف هذه التحركات، وهي الأكثر إثارة من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي منذ الأزمة المالية لعام 2008، إلى الحفاظ على استقرار الأسواق المالية وجعل تكاليف الاقتراض منخفضة قدر الإمكان في الوقت الذي تغلق الشركات أبوابها في جميع أنحاء البلاد ويندفع الاقتصاد الأمريكي نحو الركود.
بالإضافة إلى تخفيضات أسعار الفائدة ، أعلن الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي) عن استئناف برنامج شراء السندات في فترة الأزمة والمعروف باسم “التسهيل الكمي”، حيث يشتري الاحتياطي الفيدرالي سندات بمئات المليارات من الدولارات من أجل دفع أسعار الفائدة إلى الأسفل والحفاظ على تدفق الأسواق بحرية.
وقال جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي إن قادة الاحتياطي الفيدرالي التقوا بعد ظهر الأحد لأنهم يتوقعون “تأثيراً كبيراً” على الاقتصاد الأمريكي في الأشهر المقبلة، بما في ذلك النمو السلبي في الربع الثاني.
إن مضاعفة التخفيض في أسعار الفائدة وقصر المدة الزمنية بين التخفيضين (أقل من أسبوعين) يشير إلى حجم القلق الذي يخيم على صناع القرار الاقتصادي في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك جراء استمرار تفشي فيروس كورونا الجديد في الولايات المتحدة والكثير من دول العالم، فالكثير من الدول الأوربية والآسيوية قامت بالعديد من الإجراءات للحد من انتشار الفيروس، وصلت إلى إغلاق بلدان بأكملها وعزلها عن العالم الخارجي كما في حالة إيطاليا البلد الثاني بعد الصين من حيث عدد الإصابات.
وقد تسبب تفشي المرض بالفعل في إغلاق المصانع وإيقاف الرحلات الجوية وإلغاء الأحداث. وحذرت شركتا آبل وماستركارد والخطوط الجوية المتحدة وعشرات الشركات الأخرى من أن الفيروس سيضر بالأرباح. الأمر الذي دعا منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي للتحذير من أن النمو العالمي قد ينخفض إلى النصف، إلى 1.5 في المائة في عام 2020 ، إذا استمر الفيروس في الانتشار.
هل أصبح العالم أمام أزمة مالية تلوح في الأفق؟
إن قرارات التخفيض الفيدرالي لأسعار الفائدة تعتمد على عدة عوامل من أهمها: 1- مؤشر أسعار المستهلكين أو التضخم. 2- قوة سوق العمل أي القدرة على استحداث الوظائف. 3- النمو الاقتصادي المحلي والعالمي. ويشهد الاقتصاد الأمريكي تباطؤ منذ الربع الثاني من عام 2019، الأمر الذي دفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى خفض أسعار الفائدة 3 مرات خلال العام 2019 لتصل إلى نطاق (1.5-1.75%) بعد أن كان عند 2.5% في شهر حزيران 2019.
إن التخفيضات المتدرجة بمقدار (0.25 %) لأسعار الفائدة التي حدثت في المرات الثلاث عام 2019 والتخفيضات الشديدة لها خلال الشهر الحالي، يمكن أن تعيد للأذهان سيناريو ما حدث قبل وخلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الشكل المرفق الذي يمثل حركة أسعار الفائدة المحددة من قبل الفيدرالي الأمريكي خلال الفترة من عام 2006 وحتى التخفيض الأخير في 16 من آذار الجاري.
نلاحظ من الشكل البياني السابق أن حركة الخط البياني لأسعار الفائدة قبل وخلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، يشبه حركته منذ عام 2018 مروراً بعام 2019 والانحدار الكبير في عام 2020، فمعدل الفائدة الحالي وصل إلى مستويات عام 2010 وما بعدها، أي إلى المجال الصفري (0-0.25%)، كما هو الحال اليوم.
سيكون من الصعب تجنب الركود الكامل. والأسوأ من ذلك ، أن أسعار الفائدة طويلة الأجل قريبة بالفعل من الصفر مما يحدّ بشدة من قدرة الاحتياطي الفيدرالي على تعزيز الاقتصاد الأمريكي. يمكن أن تساعد السياسة المالية مثل تخفيض ضريبة الرواتب ، على الرغم من أن ما يحدّ من الاستهلاك في هذا الوقت ليس نقص المال بل عدم الرغبة في الإنفاق.
إن انقطاع سلاسل التوريد وانخفاض الثقة في الأعمال بشكل طفيف سيبطئ بشكل معتدل الإنتاج والاستثمار التجاري. من المرجح أن تعاني قطاعات كبيرة أخرى من الاقتصاد ، ولا سيما السلع الاستهلاكية ، أقل بكثير لأنها ضرورية للغاية ولا ينطوي شرائها على مخاطر عالية للإصابة. لذلك رافق قرار تخفيض أسعار الفائدة من قبل الفيدرالي الأمريكي جملة من الإجراءات والتسهيلات، أهمها: 1- شراء سندات خزينة بقيمة 500 مليار دولار. 2- شراء سندات رهن عقاري بقيمة 200 مليار دولار. 3- فتح باب الإقراض وحث المصارف على مساعدة الشركات والأفراد في تخطي تداعيات كورونا. 4- رفع القيود على المصارف والسماح باستخدام الأموال الاحتياطية. 5- التنسيق مع المصارف المركزية الرئيسة في العالم لضمان توفر السيولة النقدية الكافية للأنظمة المالية.
الانتظار سيد الموقف
لن يظهر التأثير النهائي لفيروس التاجي كورونا الجديد في الإحصاءات الاقتصادية على الفور. وبالكاد تتوفر بعض البيانات عن شهر شباط، عندما بدأ الفيروس ينتشر على نطاق واسع خارج الصين ، وقد لا يكون تأثيره على الوظائف والإنفاق واضحاً حتى الربيع أو الصيف. وسيراقب الاقتصاديون أيضاً المطالبات الأسبوعية للتأمين ضد البطالة لمعرفة ما إذا كانت حالات التسريح من العمل تتزايد ومراقبة بيانات مبيعات التجزئة الشهرية كعلامات على تأجيل المستهلكين الإنفاق على بعض الحاجات.
من جهة ثانية، وفقاً لمكتب الميزانية في الكونجرس، يمكن أن يكلف الوباء الولايات المتحدة أكثر من 4 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي في موقف شديد (على غرار الإنفلونزا الإسبانية عام 1918) أو 1 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي (إذا كان الوباء أكثر اعتدالًا، على غرار عامي 1957 و 1968 الأوبئة). ويمكن أن تشمل التداعيات الاقتصادية الركود في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو واليابان، وأبطأ معدل نمو مسجل في الصين، وإجمالي خسارة 2.7 تريليون دولار – أي ما يعادل إجمالي الناتج المحلي للمملكة المتحدة. أي أننا أمام سيناريو وصول النمو العالمي للعام الحالي إلى الصفر.
مع وجود الكثير من الأشياء المجهولة المحيطة بمسار الوباء، واستجابة الحكومات والأعمال التجارية، لا يمكن للتنبؤات التطلع إلى الدقة في الوقت الراهن. حتى الآن، يبدو تفشي الفيروس التاجي أشبه بالإعصار أكثر منه مثل الأزمة المالية – ولكن هذا يمكن أن يتغير بسرعة.